علوان سعيد الشيباني
ولد رجل الأعمال علوان سعيد الشيباني في محافظة تعز قرية المدهف عام 1936م جنوب اليمن، نشأ في أسرة بسيطة، وسافر إلى الحبشة في صغره للعمل، ثم عاد إلى عدن لإكمال تعليمه. حصل على منحة دراسية من نادي الاتحاد الشيباني للدراسة في مصر، ثم انتقل إلى أمريكا حيث تخرج من جامعة كانساس في العلوم السياسية. عاد إلى اليمن بعد تخرجه، وأسس مجموعة العالمية التي تضم شركات متنوعة في مجالات السفريات والسياحة والتجارة والخدمات. توفي في لندن عام 2022، ودُفن في العاصمة صنعاء.
حينما طلب مني فريق دراسة «الآثار المتبادلة للهجرة اليمنية» كتابة شهادتي عن الهجرة، باعتباري أحد المهاجرين الذين قادتهم ظروف المعيشة (الفقر والحرمان) إلى مغادرة قريته إلى بلد الحبشة (أثيوبيا) قبل أكثر من سبعين عاماً، لتكون هذه الشهادة مقدمة للجزء الخاص بأبرز أعلام الهجرة اليمنية في العصر الحديث، لم أجد أفضل من سرد قصتي مع تلك الرحلة الباكرة من عمري، والتي أعادت تشكيل وعيي بالحياة. قصتي مع الهجرة الباكرة طريفة ومؤلمة، فقد هاجرت إلى الحبشة في بداية سن مراهقتي (بين عامي 1949م، و 1950م)، ولم يكن عمري قد تجاوز الرابعة عشرة، وشعرت بمرارة فراق الأهل والأقران، لكنني لم أتعرض لإذلال والمهانة، مثلي في ذلك مثل غيري من المهاجرين الهاربين من الفقر والجوع في بلادنا. إذ كان كل اليمنيين يُعاملون من قبل الأثيوبيين باحترام، وإن أكثرهم صاروا-مع السنين- جزءاً من نسيج المجتمع هناك بالتزاوج والاندماج، ويتأثرون بهم ومعهم اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا.
في سنوات هجرتي الباكرة التي امتدت لقرابة خمسة أعوام، في مدينة ديردوا الأثيوبية، عملت في مطعم يملكه أحد أبناء قريتنا، والذي أخذني معه في رحلة الكفاح تلك، ولي مع هذه التجربة العديد من القصص والحكايات التي أوجزتها في مذكراتي الشخصية والتي عنونتها بـ «الحياة كما عشتها.» وبعد قرابة سبعين سنة من هجرتي إلى الحبشة، وتحديدًا في عام 2017م، تلقيت دعوة من أحد كبار رجال الأعمال في المملكة العربية السعودية لزيارته، وحين وصلت مطار الرياض، وقفتُ كأمثالي من الواصلين في طابور، لن أدَّعي بأنه كان طوياً، مقارنة بما هو مألوف في مطارات مماثلة في منطقتنا، لكن الاختلاف فيه أن ضابط الجوازات كان بطيئاً جداً في إنجاز إجراءات دخول المسافرين.
طلبتُ من أحد الحراس الأمنيين تقدير وضعي، بسبب كبر سنِّي، بتوفير كرسي لي حتى يأتي دوري، لكنه لم يُعر طلبي أيَّ اهتمام. وبعد كثير من معاناة الوقوف في الطابور، حان دوري للوصول إلى «كاونتر » الجوازات، وبدون مقدمات، بادرني ضابط الجوازات بسؤالي عن سبب تبرُّمي من المعاملة، فقلت له إنني في الثمانينات من عمري، ولديَّ تأشيرة دخول المملكة، ودعوة من أحد كبار تجارها، وكنت أتوقع معاملة أسرع وأفضل، فوجَّه بجلوسي على كرسيٍّ عتيق مع العمال الآسيويين الذين لم تُستكمل إجراءات تأشيرات دخولهم لأسباب مختلفة.
نفذت تعليماته على مضض، ولكنني عدت إليه بعد عدة دقائق وطالبته بتسليمي جواز سفري، وأشعرته بعدولي عن دخول المملكة. نظر إليَّ ضابط الجوازات بازدراء وقال: «أيُّ بلد تريد المغادرة إليه؟ وأضاف: لن يقبلك أي بلد، لأن «دفتر » سفرك هذا لا يؤهلك للحصول على تأشيرة لأيٍّ منها.. واحمد ربك أنك حصلت على تأشيرة لدخول المملكة !!» بسبب اللَّغط وارتفاع الأصوات خرج أحد الضباط من مكتبه، واقترب مني وأنا في حالة شديدة من الإعياء والتوتر. سألني الضابط إن كانت لديَّ تذكرة سفر وكذا تأشيرة دخول إلى البلد الذي أنوي السفر إليه؟ أغاظتني طريقة تعامله وزميله معي بسبب جواز سفري اليمني، فما كان مني إلاّ إخراج جواز سفري الإسباني الذي كرَّمني به ملك إسبانيا، ولوَّحت به أمامهما، وقلت: هذا يوصلني إلى أيِّ بلد أُوروبي، وإلى كثير من البلدان العربية وغيرها. فأظهرا دهشتهما، وتغيَّر أسلوب معاملتهما لي، وتم اعتماد تأشيرة الدخول على جواز سفري اليمني.
جعلتني هذه الحادثة أفكر مليًا في معاناة اليمنيين بالمهجر، في الآونة الأخيرة، ولاسيما في بعض بلدان الجوار في منطقتنا. واستعادت ذاكرتي دور اليمنيين في تنفيذ أعمال البنية التحتية، وفي تمويل وإقامة المشاريع المختلفة في بلدان دول الجوار، ولاسيما في النصف الثاني من القرن العشرين. مساهمات اليمنيين على مستوى العالم كثيرة، وتكاد تكون الأكثر تأثيرًا على اقتصاديات وثقافات بعض البلدان التي هاجروا إليها وانخرطوا في بنائها وضمن نسيجها الاجتماعي، سواء كان ذلك في دول جنوب شرق آسيا أو شرق أفريقيا أو الخليج العربي، وغير ذلك من البلدان.
ومما يؤسف له أن بعض البلدان- في مقدمتها بلدان الجوار وبعض البلدان العربية الشقيقة- قد تنكَّرت لدور اليمنيين الحضاري في نهضتها الاقتصادية والاجتماعية. ومن هذه الخلفية، ولدت فكرة تبني «مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية» إعداد دراسة موسعة عن دور المغتربين والمهاجرين اليمنيين في بلدان المهجر، وتبلورت هذه الفكرة في الأشهر الأخيرة من العام 2019م. بدايةً، طرحتُ الفكرة على العديد من المثقفين والمهتمين والمتخصصين في قضايا التاريخ وعلم الاجتماع والأدب والإعلام، وحينما شعرت بالتفاعل الإيجابي لجميعهم مع الفكرة وحماسهم لتنفيذها، بدأنا بأولى الخطوات، وهي تشكيل فريق تنسيق وإشراف لتنفيذ الفكرة، وكان ذلك في نوفمبر 2019م.
الفكرة التي بدأت حلمًا صغيرًا، ها هي بعد عام ونصف من الجهد الدؤوب صارت عملًا رائدًا لم يقارب بهذا الشمول مطلقاً، لا من الجهات الرسمية ولا من الجهات غير الرسمية في اليمن. وما لم تنجزه مراكز الأبحاث والجامعات اليمنية طوال تاريخها البحثي، ها هي «مؤسسة الخير للتنمية الاجتماعية» ومن ورائها «مجموعة العالمية» تقوم بهذا العمل الجبار، منطلقةً من واجبها تجاه المجتمع. لا نقول إن هذا العمل قد غطى، وبشكل قاطع، كل جوانب موضوعات الهجرة وتفاصيلها، لكنه يبقى عملًا تأسيسيًا رائداً يمكن أن يُبنى عليه في المستقبل، سواء في الدراسات الميدانية، أو مكملاتها النظرية، أو في جانب أعلام المهاجرين وتأثيراتهم، والذي قمنا بتقديم جزئه في هذه الشهادة.